استعادة الذاكرة والهوية في رواية (المنسيون بين ماءين) للكاتبة البحرينية ليلى المطوّع بقلم الأستاذ والناقد الكبير عادل ضرغام

 


استعادة الذاكرة والهوية في رواية

(المنسيون بين ماءين) للكاتبة البحرينية

 ليلى المطوّع


بقلم الأستاذ والناقد الكبير عادل ضرغام


نشرت المقالة في القدس العربي بتاريخ ٢١ يوليو ٢٠٢٤ 

بعنوان "المنسيون بين ماءين" تقابل السياقات في استعادة الذاكرة والهوية 





 


في روايتها (المنسيون بين ماءين) تقدم ليلى المطوّع إطارا بنائيا خاصا، وثيق الصلة بالفكرة أو الإطار المعرفي الذي تؤسس له الرواية، وتعمل إلى الوصول إلى حدوده، وتشكيل معالمه. فالسرد ليس أحاديا وليس تصاعديا، بل هو حكايات زمنية متوالية، لكن كلها حكايات تؤسس لفكرة تاريخ المكان وهويته التي يجب أن تتعاظم على الأديان، فالأديان في هذه الرواية- وإن كانت غائبة عنها بشكل مباشر- تعدل وفقا لهوية وأدبيات الجزيرة الأساسية والجزر المحيطة. فالسرد في هذه الرواية المشدود للبحر وينابيع الماء واليابسة يشكل طبقات وحكايا متتابعة، بينها مسافات زمنية، وكل طبقة من هذه الطبقات كاشفة عن طبيعة الحياة، وكأن كل طبقة منها ترصد حجم المتغيّر في ابتعاده أو اقترابه من الثابت التي تحاول الرواية وصل المتفسّخ الآني منه بالجذور، وتعيد ترميمه مرّة أخرى.

الرواية تشتغل على اختلاف الأطر بين الطبقات الماضية والآنية من خلال حكايات تقوم بسردها، ترصد من خلالها آلية التعامل مع المكان، البحر وينابيع الماء والنخيل. هذا الشكل البنائي القائم على فكرة الطبقات المشدودة للأسطورة والخرافة والمتخيل والمحددة زمنيا من خلال إشارات دالة يتمّ استيلادها من الأسماء، وربما من فكرة الأديان، يستلزم آليات بنائية، كاشفة عن التداخل المستمر بين الطبقات، فتصبح ساردة ومسرودا عنها في آن. فخطاب أو حكاية (ناديا) يتداخل ويتلاحم مع كل الطبقات السابقة عليها، وذلك من خلال خطاب هذه الطبقات وارتباطها بالمخطوطات القديمة والمذكرات أو الواقعات، فالواقعة تشكل طبقة، تكشف عنها، وفي المركز منها المتخيل الجمعي.

وهذه الآلية- أي الطبقات المتوالية- تفتح أمام القارئ مساحات خاصة لقياس التطابق والاختلاف، والوعي بعمق التحوّل الذي يلحق بمجتمع محدد، وتبدّل القناعات من مجتمع يقوم على التكافل البيولوجي للكائنات إلى حداثة زائفة، هذه الحداثة الزائفة تجعله يخسر رهانه مع هويته، وتصنع نوعا من الالتباس والتوزّع، لأن هناك دائما شعورا بالاغتراب أمام المصنوع والماديات الاستهلاكية التي لا تشكل جزءا من هويته وماضيه. والطبقات المقدمة تتباين مع الآني الذي ترصده (ناديا) في محاولتها اكتساب ذاكرة ماضية تنضوي في إطارها، فكأنها نموذج للجمعي المتراكم، أو كأنها اللاشعور الجمعي، أو النماذج العليا، حيث تنتقل من طبقة إلى أخرى، لتشكّل هوية خاصة بهذا المكان وأفراده، تارة من خلال الحلم، أو من خلال الصرع، بوصفه حالة من حالات الارتداد والارتباط بماض سحيق، أو من خلال ظاهرة (ديجافو) التي تحمل شعورا يجعل الإنسان يحسّ أنه عاش الموقف الحاضر من قبل، أو ما عرفه فرويد أنه الأمر الخارق للطبيعة. الرواية تقدم نقدا من خلال التباين بين الطبقات المرصودة قديما والطبقة الآنية لتوجيه النظر نحو الإساءة التي يقوم بها البشر ضد الطبيعة، من خلال البحر، والردم واستحداث الجزر الصناعية، فيتم القضاء على البحر بكل ما يتجاوب معه من كائنات كانت دافقة الحضور في فترات سابقة، وتشكل جزءا من المعرفة البشرية، وعلى ينابيع المياه العذبة.

يتوحّد السرد في هذه الرواية بالماء من البداية إلى النهاية، بداية من حكاية (سليمة)- امرأة من المقاليت أي التي لا يعيش لها ذرية بعد أن قدمت ابنتها أضحية لينابيع الماء- وارتباطها بالأسطورة في رقصها على دم طرفة، حتى تنجب ولدها، ومرورا بحكاية (إيا ناصر)، وحكاية (يعقوب)، وحكاية (درويش)، وحكاية (مهنّا)، وانتهاء بحكاية نادية التي تجاور الحكايات السابقة، وتتداخل معها، لأنها في سردها المعاصر تتلقى الحكايات والمخطوطات، وتتأثر بها، حتى تتوحّد ذاكرتها في النهاية بذاكرة النخل أو ذاكرة نجوى، فتصبح على دارية بتاريخ المنسيين بين الماءين، ماء البحر، وماء الينابيع.

بنية السرد وتقابل السياقات

جاءت بنية الرواية متساوقة مع المنحى الفكري الخاص بها، فالبناء الروائي يتوزع إلى خطابات عديدة، يستدعي آليات سردية ترتبط بكل خطاب، والمؤطر الأساسي والموجه لكل هذه الخطابات (ناديا) المهمومة باللحظة الآنية وسياقها، ومن خلال خطابها وتوزيع الخطابات الأخرى التي تتحكم في مكان وجودها يتشكل الكون الروائي. أولى هذه الخطابات خطاب الواقعات التي كتبتها جدتها (نجوى)، بالإضافة إلى حكاية (سليمة) التي جاءتها بالبريد. في خطاب الواقعات القديمة يأتي ضمير الغياب ضميرا ساردا، فمنها القديم، ومنها الموغل في القدم، ومنها المحايث للخطاب الآني، مثل حكاية (مهنّا) الذي تتمّ الإشارة إليه في سرد (ناديا) بوصفه جدّها.

أما الخطاب الثاني فهو خطاب (ناديا) التي تطلّ منتمية إلى لحظة آنية، ولكنّ لديها حنينا إلى لحظات قديمة سابقة، وإلى الطبيعي غير المصنوع، يتجلى ذلك في مقارنتها الدائمة بين الجزيرة الأم الطبيعية وجزيرة شارق من جانب، والجزائر الصناعية من جانب آخر. وقد جاء هذا الخطاب بضمير المتكلّم، للكشف عن طبيعة نسقها الآني (إساءة التعامل مع البحر والينابيع والنخيل) الذي تفرق منه، في إطار سلطة الحكم الذاتي، ووجهة نظرها، ولا يتجاوب معها سوى الدكتور (آدم) وبعض كبار السن مثل والد زوجها وآخرين من المسنين الذين يتمّ نعتهم دائما بالخرف، لأنهم منساقون إلى ماض غير موجود.

وإذا كان الخطاب الأول - خطاب الواقعات- يرتبط بضمير الغياب، فإن ذلك مبرّر في ظلّ إطار معرفي تشكله الرواية، ففيه مصداقية جماعية، لأنه نتاج (نجوى) الجدة، حيث تشابه هؤلاء المنسيين بين الماءين، توحّدت ذاكرتها بذاكرتهم، أما خطاب (ناديا) فهو خطاب الباحث عن الذاكرة لاكتسابها، أو للدخول في إطارها، فهو خطاب ذاتي فردي، تشعر صاحبته بالاختلاف، لكنها لا تزال طوال صفحات الرواية على الأعراف، قد يتشكّل لها اتصال جزئي من خلال الصرع، أو لحظة الشرب من الماءين، لكنه لا يكتمل إلا في نهاية الرواية.

ولكن هذا التوزّع بين التكلّم والغياب، التكلم في السرد الآني، والغياب في سرد الطبقات السابقة، تتمّ زحزحته في إطار الجزئيات الخاصة (بناديا) في نهاية الرواية، خاصة في فصول محددة تبدأ (هناك شيء يسردني)، أو (شيء يسردني)، ففي هذه الفصول تتخلى (ناديا) عن منصة السرد بضمير المتكلّم، لكي تقدم الرواية سردا قائما على الغياب. وهذا التحوّل يشير إلى أن هناك مغايرة بين (ناديا) بذاكرتها المحدودة، وكيانها الجديد المتخلّق الذي اكتسب ذاكرة جماعية تمتدّ إلى أزمنة لم تعشها، وهذا لم يتحقق إلا في الفصول التي توحدت فيها بجدتها (نجوى)، وكانت طريقا لتوحدها (بثامارا)، حيث ترتبط ذاكرتها بذاكرة النخل، وهي ذاكرة جماعية، وليست فردية، وهذا يستوجب مغايرة في ضمير السرد. فالمغايرة هنا بين ضميري السرد لها دلالتها، في إسدال الشعور بالتحول بين فرد مكتف بذاته، إلى فرد خارج عن الأطر الطبيعية، فيصبح داخلا في إطار دائرة البحر وتموجاته العديدة التي لا تنتهي منذ بدء الخليقة وفاعلية الأساطير إلى اللحظة الآنية. فحين يسرد عنها من خلال ضمير الغياب فهذا يدلّ على فقدها لكينونتها العادية، والتحامها بكينونة جماعية في اتصالها الدائم بعوالم ممتدة، فقد أصبحت امتدادا لجدتها (نجوى)، ولكل المنسيين الذين عاينوا الماءين، وشربوا منهما. 

وإذا كانت الرواية أعطت منصة السرد (لناديا) للكشف عن سياقها القلق في ظل سياق مهيمن بوجهه القبيح وماديته من خلال ردم البحر، وإحداث خلل بيولوجي، وغيّرته إلى غياب ارتباطا بنسقها الفكري، فإنها أعطت السلطة نفسها (ضمير المتكلم)، للزوج للكشف عن توجهه الرأسمالي والنفعي، وللإشارة إلى الواقع الجديد الذي ظهرت بوادره في نهاية حكاية مهنّا، ذلك الواقع الذي زلزل الارتباط بالتاريخ القديم. فالزوج (أيوب) في فصل وحيد يأتي رمزا للنسق المهيمن ووجوده اللافت. فصوته- في نهاية الرواية- يمثل الوجه المعاصر للمادية التي أصابت العالم بشكل عام، ففي قوله ( ولكن ماذا يعني البحر؟ إنه في كل مكان؟ المعجزة أن نبني يابسة عليه، وأن نسكن البحر، نطوّعه ليكون تحت خدمتنا) نظرة بها الكثير من الاستعلاء، وتوهّم القدرة في السيطرة عليه، في مقابل كل القصص والحكايات التي تعطي للبحر تقديسا خاصا. واختيار الاسم لممثل هذا النسق ليس عاريا من الدلالة، فالزوج- ومجتمعه في منطق الرواية في ظل الانفصام عن الذاكرة الماضية- مريض، وعلاجه الماء.

في ظل جدل الخطابات السابق، هناك خطاب أخير، يمكن أن نطلق عليه خطاب الرثاء الذاتي للكائنات والأشياء المتجاوبة في وجودها مع البحر. فقد أعطى السرد الروائي من خلال ضمير المتكلّم مساحة للرثاء الذاتي للمقارنة بين سياقين، وجعل العين، والطائر (مالك الحزين)، والحالة- وهي شكل من أشكال التكوّن الطبيعي للجزر الصغيرة- والنورس، وثامارا (النخل)، والماء، والبحر، شخصيات وأبطالا قادرين على السرد. فسيطرتها على منصة السرد تكشف عن رؤية هذه الكائنات أو الأشياء لتفسها، بعيدا عن رؤية السرد الموضوعي للحكايات، وبعيدا عن رؤية البشر، وتوزعهم بين التمسك بالأسس أو الأدبيات، أو التخلي عنها استجابة للحظة حضارية مارقة خارج الذاكرة، في منطق الرواية.

فالغراب أو النورس أو النخل أو الينابيع كان لها وجود خاص في كل الحكايات السابقة، شبيه بالوجود المقدّس، اكتسبته من ارتباطها بالبحر. لكنها هنا تتورّط في رثائها لنفسها، لأنها تتشكل في حدود وجود مباين لوجودها السابق، خارج تمددها الطبيعي، مما يخلق خللا بيولوجيا ينبّه إليه النص الروائي. ويكشف النص الروائي بشكل خاص عن النسقين من خلال شكلين في تكوّن الجزر: الأول (سيرة الساكنين بين مدّ وجزر- يابسة منحت)، والأخير (سيرة الذنب- يابسة اغتصبت). والفارق بينهما واضح، ففي الأول هناك إشارة للتوالد الطبيعي للجزر، من خلال لفظ (المنح) الذي لا يخلو من قداسة وقدرة، وتكافل بيولوجي، وفي الآخر الجزر الصناعية وفعل (الاغتصاب) الذي يستدعي الغضب والانتقام، وهو غضب رأينا صداه في كل الحكايات القديمة، من خلال التضحية بالأطفال بوصفه فعلا أسطوريا قديما، او بوصفه فعلا انتقاميا من (سنان) جني العين، بعد انفجار الماء فيها، أو بالقيام بفعل تعويضي عن الأضحية البشرية بالدمية، كما فعلت الجدة (نجوى) مع حفيدتها (ناديا).

الحكايا أو الواقعات التي جاءت تحت عنوان لا يخلو من قصدية (أدبيات أهل الجزر)، تشير إلى إطار زمني يمتد من اللحظة المعاصرة الآنية في حكاية (ناديا) الساردة وصانعة الكون الروائي، والمسرود عنها في النهاية، إلى عام 400 ق م. وربما جاء تقديم حكاية سليمة على قصة (إيا ناصر) لتجذير الأحداث داخل إطار روائي محدد، فطرفة بن العبد الشاعر الجاهلي المعروف الذي يشار إليه في الرواية يحدد بهذا الحضور المكان. وبعد التوجيه نحو المكان بشكل غير مباشر، يأخذ الزمن قطاعا تراتبيا يبدا من مساحة الأسطورة والخرافة إلى اللحظة المعاصرة، ويمكن أن تكون الأسماء المسدلة على الشخصيات في كل حكاية هاديا زمانيا في ظل وجود معتقد أو دين محدد. فواقعة أو حكاية (إيا ناصر) تفتح السرد على أساطير عديدة، منها أساطير الخلق الأولى، والخلود، والتداخل بين البشر والألهة والكائنات، وهناك ثمة تشابهات بين حكاية قابيل وهابيل والصراع بين (إيا ناصر) و(أوتو) على (إيليا)، مع تغيير في طبيعة الغراب وصورته ووظيفته. ففي قصة (إيا ناصر)- داخل المخطوط المتخيل الخاص بالواقعات- تقابل القارئ أسماء وثيقة الصلة بالأساطير والخرافة، وهي تمثل في زمنها موجها دينيا راسخا، فأسماء معابد مثل إنانا وإنكي، وزيوسودرا وزوجته ثامارا، وجلجامش، والإله سين (إله الماء في حضرموت وجنوب الجزيرة)، وعشتار، وبابا درياه الشخصية الخرافية وسردياتها، كلها تعطي مؤشرا زمنيا على فترة التماهي والتداخل بين البشر والألهة في ظل معتقدات خاصة بالأسطورة.

  وبوسع القارئ في ظل هذا التراتب الزمني للواقعات من خلال مطالعة الأسماء أن يؤطر لها بسيادة دين أو مذهب محدد لفترة زمانية معينة، فشخصيتا إسحاق ويعقوب إشارة واضحة الدلالة على هذا التوجه، وكذلك في حكاية تالية شخصية درويش، فالشخصيات من خلال ذلك الارتباط واضحة الدلالة على الزمن بكل تحولاته السياسية في كل فترة. فالرواية مهمومة بتمرير فكرة من خلال هذا التوالي تتعلق بكلمة (الأدبيات). فالأدبيات هنا هي الأعراف والأطر التي تحدد نسق أو طريقة التعامل مع البحر ذلك الوجود الملتحم بالمقدّس في كل الحكايات، فكل ما قدّم في الحكايات لا يتوجّه نحو أفراد، ولكن نحو ما يتمّ الوعي به واختزانه من حكايات هذه الأفراد وقصصهم، فهي تكشف عن نمط حياة مستمر يكفل له القداسة، باالرغم من تغييرات السياسة والأديان، من الأسطوري المحرّك للبشر إلى الأوامر والنواهي الدينية. فكل هذه الأدبيات  تشير إلى قوة العرفي الموروث المرتبط بالذاكرة التي تتشكل، ويعاد تشكيلها دائما، فالأدبيات نسق وجودي يشكل قناعات وتوجهات، سواء ارتبط الأمر بأسطورة أو بمتخيل جمعي. ما تؤسس له الرواية محاولة تمريره ورصده، سواء في سياق الواقعات أو في سياق اللحظة الآنية شيء أشبه بالروح أو بالذاكرة الجمعية، تتجذّر داخل البشر، بعيدا عن فكرة الدين، بل على العكس تتعاظم عليه.

فالرواية تؤسس لروح أو لنسق التعامل مع الماء، البحر أو الينابيع، واستمرار هذا النسق يحقق اكتمالا ممتدا، وتصالحا مع الماضي، وفي ظل ذلك الفهم نستطيع أن نفهم حالة التقديس، وتقديم الأضحيات إليه، فهذه الأضاحي في كل الحكايات، سواء كانت حقيقية أو رمزية من خلال الدمى تتجلى بشكل متواز في جميع الحكايات، بداية من حكاية سليمة والتضحية بابنتها الوحيدة، ومرورا بنانشي في حكاية إيا ناصر التي يتمّ اختيارها للقيام بالطقس المقدس، و(بقدشة) في حكاية يعقوب التي قدمت أبناءها وأغرقتهم نذرا للبحر، وانتهاء بالإضحية الرمزية من خلال الدمية في حكاية ناديا. فهذا التوازي الطقسي يكشف عن روح تلازم البشر أو المجتمع، وعن نسق متوار يحرّك المخيلة التي تدرك مساحة الابتعاد الآنية بفعل النسق المهيمن والنسيان الذي يصيب الذاكرة.

استعادة الهوية/ الذاكرة

لشخصية (ناديا) في النص الروائي وجود مهيمن، ولا ترتبط هيمنتها بوجودها الدائم بالحضور الصوتي السارد بشكل متواز مع كل الحكايات السابقة، ولكن ذلك يرتبط بالتوجيه السردي الخاص الذي أسس وجودها من البداية، فقد قدمت في إطار يفرق من فاعلية النسق المهيمن، من خلال المقارنة والانحياز بين الجزيرة الأم الطبيعية والجزر الصناعية، مشيرة إلى أثر ذلك على البحر، وعلى ينابيع الماء، ومن ثم كان هناك في بداية تشكيلها تفريق بين الحقيقي والزائف في أمور عديدة، لكي يتمّ تفعيل ذلك، ونقله من الأشياء البسيطة الذاتية، إلى أشياء تتعلق بالمجموع، وتنفتح على الروح أو الهوية الجمعية.

يتأكد ذلك في مساحة الاهتمام بموضوعات محددة، مثل أبحاثها عن الأشياء أو الكائنات التي في طريقها إلى الاختفاء، أو عن ينابيع الماء التي اختفت، ومحاولة الوصول إلى أسباب ذلك، ومنها- أيضا- الارتباط بشخصيات في نص الرواية تتجلى بوجود خاص، مثل شخصية الدكتور آدم التي شُكلت تشكيلا خاصا، يجعله يغادر وجوده المادي- مثله في ذلك مثل ناديا- ليأخذ معاني فكرية ومعرفية. ففي لقطة أولى نجده مهتما بكل الكائنات وثيقة الصلة بالبحر التي في طريقها إلى الانقراض والاختفاء، وفي لقطة ثانية نجده عاريا يصلي إلى الماء في طقس خاص، حيث يقول في صوت واضح (من الماء إلى الماء، إنا من الماء، وإنا له عائدون) وفي لقطة أخيرة تفصح الرواية عن انتمائه إلى جماعة حارسي النخلة.

وفي كل جزئيات السرد الخاص (بناديا) يتأسس له ارتباط خاص بالجدة (نجوى) الحلقة الأخيرة للوعي والانضمام داخل الذاكرة الجمعية وثيقة الصلة بالماء والنخل، فحين تواجهه (ناديا) باتهامها له في اختفاء طفلتها في المرة الأولى، واختفاء طفليها في المرة التالية، بعد أن خطفهما (سنان) جني العين، نراه يقول (لا يمكن إيذاء نسل نجوى)، ويتأسس له الارتباط ذاته في انفتاحه على الحلقة الجديدة من حلقات الذاكرة  المقترحة من خلال (ناديا) ففي سردها هناك كشف عن دوره في تسليم الواقعات، وإرساله حكاية (سليمة) إليها، ثم وجوده الدائم في كل حوادث الاتصال التي تمرّ بها الشخصية مع السلسلة الممتدة لأصحاب الذاكرة الجمعية، سواء في اتصالها الجزئي، أو في اتصالها الكلي الذي يوجد مغايرة عما سبق، وعلمه بكل ما مرّت به سابقا، سواء بتقديمها كأضحية في فعل طقسي من خلال جدتها، واستبدالها بدمية، تصبح عوضا عن فعل التضحية الحقيقي.

الرواية مهمومة في عرضها بنسقين مختلفين في التعامل مع الماء(البحر والينابيع) من خلال قصص وحكايات متوالية قديمة، ولحظة آنية مغايرة في التوجه، ولكن تأمل هذين النسقين بطريقة تقديمهما في إطار جدل وتباين مستمرين، ومن خلال تأمل بعض التوازيات الدالة في النص الروائي، يكشف أفقا من التأويل، بحيث يبدو الدكتور آدم- واسمه مقصود للإشارة إلى نقاء البدايات الممتد- حارس الهوية، والكاشف عن تبدلها. وتأخذ في ظل ذلك الفهم شخصية (ناديا) مساحات أوسع من التأويل بعيدا عن مدلولها البنائي، وعن كونها واحدة من اللواتي تمت التضحية بهن للبحر من خلال طقس بديل.

تمثل (ناديا) امتدادا لكل هذه الواقعات، فقلقها دائم وغريزي للالتحام بأصحابها، وكأنها وجود مكمل يمتد، ودائما هناك تقاطع بين سردها وسرد الواقعات بضمير الغياب، ودائما هناك مساحة من التماهي بين الفصل الخاص بسرد الواقعات وبداية سردها. ففي جزء سردي خاص بناديا يأتي صوت نجوى (الأحجار لم وهبت له)، ويبدأ بعدها السرد الخاص عن درويش (الأحجار التي توهب لله تكون له)، ويتكرّر ذلك النمط في فصول كثيرة، يجعل ناديا في سياق العين الراصدة والمرصودة، فهي تمثل اقتراح اكتساب واستعادة للهوية التي بدأت في التحلل، وهي اقتراح للاندماج بالماضي الذي يشكل بداية راسخة، بكل تناظراته، وأضحياته الكاشفة عن التقديس من خلال الرضا والإذعان، أو من خلال النمط الآني الذي يعاني فقدا في ظل سيادة نمط بديل.

 فالقلق أو التشظي الذي نراه يمثل قلق الفقد، أو قلق الآني الذي خسر رهانه مع التاريخ، أو في احتفاظه بهويته، من خلال اختفاء الجزئيات الصلبة التي تشكل ملامح الهوية مثل ينابيع الماء والنخل. والهوية المشدودة إلى الروح، لا تعني بالضرورة الثبات، وإنما تعني في التحديد الأقرب للقبول تشكيلا جديدا لجزئياتها. فمع كل طبقة او كل مساحة أو واقعة، هناك تأسيس لنمط حياة، يولّد آلية ارتباطه بالوجود، وجزئيات ذلك الوجود، ويظل موجودا من كل طبقة من الطبقات أشياء تأبي على الانسلاخ والتلاشي، تتجلى حاضرة- بالرغم من تغيّر السياقات العديدة- حاضرة في المخيال الجمعي.

ظلت الشخصية الرئيسة (ناديا) حلقة من حلقات الهوية أو الروح السارية الممتدة، يتمّ التجهيز لها بالتدريج من خلال مساحات التوازي التي تتبدى في السرد الخاص بالواقعات، وفي سردها الذي يبدو شبيها بصورة الذات الإنسانية في البحر، لأن البحر أو الماء يمثل أداة الإدراك الأولى لصورة الذات، وتبيّن ملامحها، وكذلك تمثل الواقعات أو الحكايات السابقة مساحات اكتشاف صورة الشخصية الرئيسة، فمن خلال هذه الواقعات، ومن خلال توازيات دالة وكاشفة في خطابي السرد، يتم تحديد أطر التشابه والاختلاف، أو الاقتراب والبعد. فكل التحام يتم داخل الذاكرة الجماعية لشخوص الواقعات الذي يشكل انفتاحا على الأبدي الممتد في الماضي يتشكل عند حدود الماءين، والعبارات التي تستخدمها شخوص الواقعات، ومنها نجوى الجدة في هدهدة البحر لحظة الغضب، لإعادته إلى هدوئه تكاد تكون متطابقة، مثل (توب يا بحر)، وعبارات أخرى بالضرورة، وكذلك التوازيات الخاصة بالمنح والإعطاء من البشر للبحر.

يتكرّر حدث التضحية بالابنة للماء في واقعة (سليمة)، ومع الجدة (نجوى)، ومع (ناديا) نفسها في بحثها عن احتفاء ابنتها ( آلاء)، فقد ظل هذا النص الذي جاء في واقعة (سليمة) في قولها ( ثم اقتربت الأمهات ليشربن من النبع، لتعرف كل واحدة منهن طعم ابنتها الأضحية ورائحتها) دائم التكرار في واقعات كثيرة، لكنه كان أقرب للتطابق مع ناديا في رحلتها للبحث عن ابنتها، للوصول إليها بعد أن خطفها الجني (سنان) الذي تدلّ على قيامه بفعل الخطف في المرتين بقايا التراب الخاص على السرير.

وتستمرّ هذه التوازيات حاضرة من خلال إشارة تلقي ملامح لافتة بالتشابه بين (نجوى) و(ناديا)، وكأنها سيرة تعيد سيرة سابقة، بعد استحضار عمليات التجهيز لإسدال التشابه والتطابق والانتساب. فهذا التلاحم والانضواء داخل سلسلة الذاكرة أو الهوية منذ البدء أو الخلق إلى اللحظة الآنية، لم يتم الوصول إليها بشكل فجائي، وإنما يتمّ الترتيب والتوجيه لها بشكل فيه نوع من الاقتدار، والتدريج في عقد المشابهات، مثل الإشارة إلى مرض (نجوى) بالصرع، وتوازي ذلك مع إشارة (ناديا) في سردها من معاناتها من الصرع في طفولتها، ولم يعد إليها إلا بعد واقعة الأفلاج مع الدكتور آدم. وربما كان التشابه أو التوازي اللافت الذي نراه مع كل هؤلاء المنسيين أو المنسيّات بين الماءين يتمثل في رائحة النخل أو (طلع النخل)، فالرواية تقول عن (إيا ناصر) (كان لفمه رائحة طلع النخل).

ومع النخل أو طلع النخل يجد المتلقي نفسه محاصرا ببنى دلالية لمساحات الاتصال التي تمت بين (ناديا) المحدودة والأبدي وذاكرته، بوصف ذلك الاتصال محاولة لعقد المصالحة بين الماضي والاني، أو بشكل يرتبط بالمنحى التأويلي للوصول إلى هوية، لا تتنكّر لأسس ماضيها، ولبدايتها. فالوصول إلى رائحة طلع النخل والتوحد معه بداية للاتصال الأبدي الذي يفقد الشخصية ذاكراتها المحدودة، ويجعلها منفتحة على ذاكرة جماعية أبدية. فأشكال التواصل كانت جزئية متدرجة، تبدأ من استحضار الشخصيات السابقة بفعل القراءة الذي يفتح بوابات التذكر والحلم، مثل التواصل مع الجني (سنان)، حين يقول لها (اتبعي الماء) في الحلم للوصول إلى ابنتها.

وقريب من ذلك الاتصال الجزئي بالجدة نجوى، أو بإيا ناصر، أو مع جدّها مهنّا، بعد الشرب من الماءين، وتعرّضها للصرع، فوالد زوجها يقول عنها (إنها هلوست، ابيضت عيناي، ولو لم أكن امرأة لقال إن الوحي تنزّل علي، تحدثت عن أرض بها نخيل، ومعابد، وعن إيا ناصر). ولكن الاتصال الأبدي الدائم لا يتم إلا بالتماهي مع طلع النخل، وأول إشارة لذلك تتمثل في الجملة الموجودة على غلاف كراسة الواقعات التي وجدتها داخل غلاف مجلة (لا تقرأ إن لم يكن دمك نخلاويا)، أو عند الحديث عن الجد الأبعد مهنّا من خلال لوصف (مهنّا النخلاوي)

وهنا يتأسس التناظر بين الذاكرة والنخل، الذاكرة الخالدة الممتدة، من خلال التشابه بين النخل وأصحاب الذاكرة المنسيين، يقول درياه لإيا ناصر (أتعلم لم النخلة خالدة، لأنها شربت الماءين، ماء عذبا وماء مالحا، ويصبح هذا المنحى فاعلا في التلقي، من خلال صوت النخلة، حين تقول (ستأتيني امرأة مثلي بلا ذاكرة، ستُصعّد على قمتي بالكرّ، وفي دمي يجري طلع النخل، ما أحتاج إليه، حتى تفك اللعنة، لعنة أن تكون بلا ذاكرة). هذا التطابق أو التوحّد بين ذاكرة النخل الأبدية الممتدة، وذاكرة ناديا إشارة لسيادة الجوهري من عناصر الهوية، المتصالح مع الماضي والتاريخ، وكأنها بهذه العودة في استعادة الذاكرة، تقوم بعملية كشط لكل ما ران عليها من تراب وعفن يخفي ملامحها.





الرابط



تعليقات

المشاركات الشائعة