خفّف الوطء لا أظنّ «رمال البحر» إلا من هذه الأجساد!..
خفّف الوطء لا أظنّ «رمال البحر» إلا من هذه الأجساد!..
قراءة في رواية «المنسيون بين ماءين»
بقلم د. فواز الشروقي
نشرت المقالة في صحيفة الأيام بتاريخ
٢٧ يوليو ٢٠٢٤
هذه الرواية أقرب للسيرة. إنها ليست سيرة شخص، ولكنها سيرة مكان. لم تكن جغرافية المكان الذي تدور فيه الرواية كبيرة، ولكن الامتداد الزمني للرواية كبير وهائل. فهي سيرة تلخّص آلاف السنين على البقعة الجغرافية ذاتها، تعرض تحولاتها، وتسترسل في رصد القصص والأساطير التي انتشرت بها. وتبدو شخصيات الرواية، رغم أهميتها وتنوّعها وثرائها، على هامش الرواية، ودورهم تكميلي لسيرة المكان.
اختارت ليلى المطوّع أن تروي سيرة البحرين بجزرها الكبيرة والصغيرة، وبحرها وينابيعها ونخلها وصخرها. رغم أنها لم تصرّح باسم البحرين في أي موطن من روايتها. واختارت أن يكون العمر الزمني لروايتها ستة آلاف سنة. وتنوّعت شخصياتها بين الشخصيات التاريخية الحقيقية، مثل شخصية طرفة بن العبد والخرنق وإيا ناصر، وبين الشخصيات الأسطورية مثل إنكيدو وجلجامش وبودرياه، إضافة إلى الشخصيات التي ابتكرتها ليلى مثل درويش ويعقوب وناديا والدكتور آدم وغيرهم.
وقد كان التحدّي الأكبر الذي واجهته ليلى في روايتها هو كيفية خلق المتعة، وصناعة الحبكة، وبناء المشاهد، بالاعتماد بالأساس على المكان كبطل للرواية، بحيث يصبح هذا المكان هو الخالق للأحداث، والمحرّك للشخصيات، ليس في حقبة واحدة محددة، وإنما في حقب متباعدة. ولم تكن هذه بالمهمة اليسيرة، خصوصًا أنّ المكان في الرواية غير مقتصر على اليابسة، بل إنّ الرواية تركّز على سيرة البحر وينابيعه، ليس بصفتهما مكانين ثابتين طوال أحداث الرواية، بل هما متحرّكان ومتفجران ومقتحمان بيوت الناس، ومتحكّمان في أمزجتهم وعواطفهم واتجاهاتهم ومسارات حياتهم.
لم يكن البحر، كما تعوّدنا في الروايات التي تجري أحداثها عنده، مكمّلاً للصورة العامة للرواية، بل كان بموجه وينابيعه وقواقعه ومحّاره وأسماكه ومرجانه وصخوره، هو الصورة والإطار. ففي أحد الفصول يغضب البحر شرّ غضبة، لأن إحدى السفن استولت على لؤلؤة ثمينة «دانة» من قاعه، فتهيج أمواجه، ويستجدي البحّارة رضاه بـ«بالنهمة». وفي فصل آخر، يغيّب البحر ابن «شنانة»، فتطلب منها عمّتها أن تكشف له جسدها ليرق قلبه ويعيد لها ابنها، وفي أحد مشاهد الرواية، تستذكر «سليمة» وصية زوجها «صفوان»: «لتعبري البحر عليك أن تقرئي وجه الماء، فلن تعبري البحر إلا إذا عرفته»، لتبدأ رحلتها في قراءة الموج من زاويته المرتفعة لتتأكد من زوايا القمم، إن كانت مسننة حادة فالبحر عميق، وإن كانت كالتلال الصغيرة المندفعة فالبحر ضحل والأرض قريبة من السطح.
وقد لا يتفاجأ القارئ أن يجد حضور الماء وتأثيره في حياة الناس طاغيًا في الحقب السحيقة من الرواية، التي تنتشر فيها الأساطير، وتتوالد فيها التفسيرات الغيبية لحركة الماء وغضبه ورضاه وعلاقته بموت الناس وولادة الأطفال، ولكن قد يتفاجأ القارئ من امتداد هذا الحضور والتأثير في الزمن الحاضر في الرواية أيضًا، ويتفاجأ أن ذلك مبرّر ومتسق مع الأحداث. فالبحر يقول عن نفسه في الرواية: «لا يعلم أهل الجزيرة أن بداخل كل واحد منهم جزءًا مني».
أثناء قراءتي للرواية، استحضرت كثيرًا بيت أبي العلاء المعرّي: «خفّف الوطء لا أظنّ أديم الأرض إلا من هذي الأجساد»، وقد يكون الأنسب للرواية لو قلنا: «خفّف الوطء لا أظن (رمال البحر) إلا من هذه الأجساد»، فأغلب أحداث الرواية تدور في الشريط الساحلي، الذي يطغى فيه الماء على اليابسة في الحقب القديمة، ثم تطغى فيه اليابسة على الماء في الحقبة الحديثة. وكأنّ ذلك الشريط الذي جرت فيه سليمة هاربة من بطش الوالي، هو ذات الشريط الذي حبلت فيه «مارا» من البحر وأنجبت ماء. وهو الشريط الذي كان يروح فيه «إيا ناصر» ويجيء بحثًا عن أبيه. وهو الشريط الذي قال عنه درويش في حقبة أخرى من الرواية: «يخدعك البحر، يلبس جلد الأرض، لعلّك تعبر». وفي هذا الشريط تتفجّر ينابيع البحر «الكواكب» التي كان يعيش الناس منها، ثم في الحقب التالية أهالوا عليها التراب ليعيشوا عليها. وفي هذا الشريط تعيش النوارس التي كان يستخدمها الأوّلون - حسب الرواية - جواسيس للولاة والأعيان، وتنطلق منه وتعود إليه، ثم يغدو تواجدها على أي يابسة دلالة على وجوده. وفي هذا الشريط تدور قصة يعقوب الذي أقام الشعائر لكي لا يعود البحر بعد الجزر، ولما تأخر المدّ دفنوا يعقوب لكي يعود البحر ويأخذه، لتنشأ على إثرها أسطورة «الحية بية». وفي الشريط ذاته وقفت هند مع النسوة في مواجهة أسطول العدوّ، فلفحن بشعورهنّ يمينًا ويسارًا لتتحرّك الريح وتحرّك السفن معها، لينبري لهم أهل الجزيرة ويهزموهم.
في كثير من مواطن الرواية، كأنّ ليلى المطوّع تبحث عن أصل الأشياء في البحرين، وجذور الأماكن الفريدة فيها، والطقوس والعادات. فالرواية تكشف أصل «الحية بية»، وجذور غناء الغواصين «النهمة»، وسرّ تحريك النساء لشعورهنّ في الرقص «اللفح»، وسبب تسمية عين عذاري بهذا الاسم. وتستعرض الرواية الغاية الظاهرية من تشييد الأفلاج، وهي نقل الماء من عين إلى أخرى، وضمان جريان الماء إلى الأراضي الجافة، والحكاية التي تقف وراءها، وهي أنها كانت مخبأ للنساء الهاربات وقت اشتداد العراك في الأرض، خشية من السبي وهتك العرض، وأنها في قديم الزمان كانت بوابة سرّية تقع قرب تلّ أسفله معبد مقدّس. كما تستعرض الرواية الأسطورة التي تقف خلف تفجّر ينابيع الماء الحلو وسط البحر المالح «الكواكب»، فأصلها - حسب الرواية - نساء دفنّ تحت الرمال، وتحوّلن إلى عيون، وحين تشرب من كل عين ستجد طعمها مختلفًا كطعم صاحبتها.
وتكشف الرواية الأصل الأسطوري لتكوّن «الحالة»، إذ أخبرت الحالة الإله إنكي برغبة الآلهة في إفناء البشر، ومنهم محبوبة «زيوسوردا»، وزوجته «ثامار»، وحين حل الطوفان أنقدهما، ركبا القارب، فمات البشر، ونجوا. ومنحهما إنكي جزيرة ظهرت وسط الماء. وكرّم إنكي هذه الحالة، فأصبحت تظهر في أوقات يابسة، وفي أوقات أخرى ماء، فهي لا جزء من الأرض ولا جزء من البحر.
كثير من فصول الرواية ومشاهدها كانت أشبه برواية الحلم. قد يكون ذلك سرّ جمال بعض الفصول والمشاهد، ولكنّ بعض الفصول أشبه برواية الحلم فور الاستيقاظ من النوم، إذ لو رواها الحالم بعد يومين، لغدا الحلم أقل تفصيلاً وأكثر تماسكًا ووضوحًا. كما أن بعض التفاصيل الجزئية في مشاهد الرواية لو حذفت من الرواية لما أضرّت بالرواية، بل ربّما ساعدت القارئ على التركيز أكثر في كلّ حدث. وأحسب أن حرص ليلى على التقاط كلّ شاردة وواردة في الحقب المستهدفة، جعلتها تصف حتى العابرين في المشاهد. وأظنّ أن هذا الوصف مفيد جدًا للأعمال السينمائية، ولكن يمكن الاستغناء عنه في العمل الروائي.
يبقى أن أشير إلى أنّ ليلى المطوّع استطاعت جمع أهمّ القصص والأحداث والتحولات الكبرى التي جرت في البحرين عبر الحقب المتباعدة، وعقدت بينها رابطًا محكمًا معتمدًا على البحر وينابيعه، بحيث تشعر أنها قصة واحدة ممتدّة بطلها البحر بماءيه المالح والحلو. وإذا كان المطّلعون على تاريخ البحرين يعرفون القصص والأحداث التي اختارتها ليلى المطوع في روايتها، إلا أنّ طريقة تناولها كانت مختلفة ومدهشة، وصادمة في بعض الأحيان، ومن الواضح أنّ ذلك تطلّب منها جهدًا بحثيًا كبيرًا. إلا أنّ القصة الأقل تميزًا - من وجهة نظري - هي قصة النوخذة الظالم الذي يلزم زوجة الغواص الميت بالزواج منه وبدفع ابنها ذي الأعوام التسعة بالعمل على مركب الغوص لسداد دينه. ولأن الرواية استعرضت القصص والأحداث بطريقة غير نمطية، فإن تناول قصة النوخذة بهذه الصورة النمطية جعلني أصنّف هذا الجزء من الرواية الأقل إدهاشًا. وأرى ـ وقد أكون مخطئًا - أنّ هذه الصورة النمطية خاطئة، أو مبالغ فيها على أقل تقدير، وغير متوافقة مع العقل والمنطق. وأرى أنّ بمقدور ليلى المطوّع أن تنزع إلى قصة من زمن الغوص غير نمطية، علمًا بأنّ زمن الغوص السابق لاكتشاف النفط غني بالقصص الأكثر إدهاشًا والأكثر ارتباطًا بالسياق العام للرواية. ولقد استطاعت ليلى أن تعيدنا إلى الدهشة في ذات الفصل بابتكار شخصية «شنانة»، وربطها بقصة الغواص الصغير «مهنا».
الرابط
https://www.alayam.com/online/culture/1062748/News.html
تعليقات
إرسال تعليق