ليلى المطوع لـ"العرب": أبحث عما يعجبني ولا يهمني العالم يتجه إلى أين - حوار كه يلان محمد

لفهم الكتابة علينا أن نسمع ممن يمارسونها، فلكل كاتب رأيه وطقوسه وعاداته وتصوراته، وبعضهم دوّنها في كتب ومقالات، وبعضهم اكتفى بأدبه ونصه، لكن الأكيد أن الوصفات الجاهزة حول شكل الكتابة وجوهرها لا تصح مطلقا، إذ لا يمكن جعل الكتابة درسا محسوما وقوالب متوارثة، فهذا ضد جوهر الكتابة والإنسان الذي يقوم على التنوع والاختلاف. "العرب" كان لها هذا الحوار مع الكاتبة البحرينية ليلى المطوع حول الكتابة كما تراها.
الكتابة الإبداعية قبل أن تكون تطبيقا لجملة من القواعد التنظيرية هي عملية تابعة للمزاج لذلك بقدر ما تكون الأمزجة مختلفة ترى تنوعا في أشكال الكتابة. وبالتالي ما يطمح إليه أي كاتب هو الأخذ باللغة صوب منطقة تعبر عن خصوصيته وصوته المتفرد. وهذا ما يمكن التأكد منه حين نتابع الآراء المختلفة بشأن هموم الكتابة والملعب الذي يجد فيه المبدع كراته.
أدركت الكاتبة البحرينية ليلى المطوع منذ البداية بأن الحفر في التربة المختلفة اختبار لطاقاتها الإبداعية، لذلك أرادت البحث عن موجتها الخاصة في روايتها الثانية “المنسيون بين ماءين”، وفعلا تمكنت من خلط الأوراق على طاولة القارئ والناقد في آن واحد. وفي حوارها مع “العرب” تتحدث المطوع عن تجربة الكتابة وتعقيباتها على الخلاصات التي نخلها الكُتابُ من خبرتهم المتراكمة في مجال الإبداع الروائي.
حالات الكتابة
الكتاب وسيلة مثل كل الوسائل، مثل الهاتف المحمول، مثل التلفاز، وأهدافها مختلفة، على حسب من يستخدمها
العرب: هل توافقین إلیف شافاك في رأیها بأنّ الرواية تعتمد على العزلة كما أنّ الروائي كائن يميل إلى الانعزال والانطواء؟
ليلى المطوع: لا أفضل القوالب بطبعي، ولا أرى أن الروائي كائن منعزل، الأمزجة عند الكتابة مختلفة، ولكن إذا تأملت نفسي، أجد أني أعبر من عالم إلى عالم آخر، وهو عالم أشد خصوصية، لذلك هي ليست عزلة هي تراوح بين العوالم.
لكل كاتب عالمه الخاص، أعرف أن أليف تكتب في الصباح على أرصفة الموانئ وهي تلتهم بذور الحب الشمسي. وهذه ليست بعزلة بمعناها الصحيح، أي الانغلاق على الذات في مكان معين، فالموانئ مكتظة بالصيادين، بالعابرين، والطيور والقطط، وصوت البحر. فهي تترك منزلها وتتجه لعالم يناسب مزاجها الخاص. هي ليست عزلة، هي البحث عن مكان يناسبنا للانفراد بذواتنا والشخوص التي تسكننا. من الممكن لي أن أجلس في أشد الأماكن اكتظاظا ولكن ذهني وحواسي في عالمي الخاص.
العرب: ما تعقيبك على نصحية أرنست همنغواي للكاتب بأنّ لا ينساق مع الأفكار الشائعة بين الناس ولا يتأثر بكل ما يسود في عصره؟
ليلى المطوع: أنا مع تفرد الإنسان، والحفاظ على خصوصيته، ولكن هذا الأمر لا يتعلق بالكاتب وحده، فهناك موجة تسود العالم، يسمونها ترندا، موضة، وأرى أنها مفردة لا أستسيغها إذا تأملت معناها، فهي تدمر خصوصية الفرد، ولكن الرأسمالية تسيطر على كل شيء حتى قطاع النشر، وهذا جلي في ما تطلبه الدور وما تبحث عنه في كل فترة.
لا أفضل أن أكون جزءا من القطيع، في الواقع لا تهمني الأفكار الشائعة، أعرف أن هناك موجة معينة، ولكني مشغولة في عالمي، كل فترة أحاول دراسة ظاهرة معينة، والاشتغال عليها لسنوات، حتى أني أنغمس فيها، لن أكتب عملا بوليسيا لأن هذا هو الرائج، أو عملا عاطفيا لأنه يحقق مبيعات هائلة. ولكن مثلما قلت الأمر لا يتعلق بالكاتب فقط، هو رهين شخصية الإنسان وقدرته على أن يكون ذاته.
من هو القارئ
العرب: من الملاحظ أنّ الكثير من المبدعين آراؤهم سلبية عن الناقد ويرون أن القارئ هو المحك؟
ليلى المطوع: لا أفضل الناقد الذي يفرض على الكاتب أو القارئ وجهة نظر محددة، ولا أحب القارئ الذي يفرض على الكاتب أمزجته الخاصة، أنا ضد التعصب لرأي معين. الناقد مهم، فهو من يحلل النص ويكشف رؤيا الكاتب، وأحب قراءة المقالات النقدية، فهي تكشف الكثير عن الكاتب والناقد الذي كتب الدراسة.
القارئ مهم، ولكن لدي إشكالية هنا وهي حصر القراء على اختلافهم تحت مصطلح واحد وهو “القارئ” من دون الانتباه إلى أن القراء مستويات وأمزجة وأنماط وحتى أهداف. فهل يمكن وضع القارئ الباحث عن متعة بلا فائدة ولا تحليل مع القارئ الذي يبحث عما يثير مخيلته ويدفعه إلى التساؤل تحت خانة واحدة.
عالم القراءة مفتوح للجميع ولا يمكن احتقار قارئ أو التقليل من شأنه بسبب ميوله. الكتاب وسيلة مثل كل الوسائل، مثل الهاتف المحمول، مثل التلفاز، وأهدافها مختلفة، على حسب من يستخدمها.
سأتحدث هنا عن مراحل القراءة أو القارئ الذي أصبحت عليه، في طفولتي كنت محصورة بكتب المكتبة المنزلية، ثم انتقلت إلى مكتبة أكثر تنوعا وهي المكتبة العامة في المنطقة، تنوعت في القراءات، ففي مراهقتي كانت تشدني الكتب الأكثر مبيعا، أو الكتب التي تدخل الجوائز، أو قوائم التوصيات، أو الصادرة من دار نشر لها وزنها، وهكذا كنت أحاول أن أفرض على نفسي رأيا لم يكن نابعا مني، وإعجابا بكتاب لم يتناسب مع مزاجي، فقط لأنه كان في قائمة ما، أو لأن شخصا أشاد به، أو لأنه ربح جائزة، أو لأن دارا مرموقة وافقت عليه، كنت أقمع رأي القارئ في ذهني، وأتبع آراء ليست نابعة مني.
في السنوات الأخيرة صرت أقرأ بحرية لا ماذا يقرأ من حولي، ولا الروايات التي ربحت جوائز، القراءة كانت حرية مهما حاول العالم أدلجتنا على قراءة نمط معين، أو الإعجاب بكتاب معين، وهكذا بدأت أتعلم القراءة من جديد، لا أجعل رأيا نقديا وغيره يفرض علي كيف علي أن أقرأ كتابا، فهنا يؤسسوننا على نوع معين من الروايات، تسلمنا خيوطها من أول صفحة، تقودنا من دون تفكير نحو الحكاية، أريد أن أتعلم القراءة بكل حواسي مع كل عمل أقرأه، أريد الدهشة لا غير.
أنفر من الأعمال البسيطة فلا جمل تستحق التأمل، ولا تدفع إلى التفكير ولا شخصيات معقدة، ولكن هذا ما أريده أنا، وقد لاحظت أن هناك فئة من القراء صاروا ينفرون من أي رواية تشكل تحديا لهم وتطلب منهم الانتباه بكل حواسهم، والتفكير في المعنى، وأن يؤولوا هم السياق العام، أي أنك من تمنح الرواية الاكتمال من خلال رؤيتك ووعيك لمحيطها.
متى تحول القارئ إلى قارئ مؤدلج؟ ومن الذي أدلجه؟ مع أن جبريل طلب من الرسول أن يقرأ وهذه دلالة على تحريره، اقرأ أي كن حرا في المعرفة والبحث، لا تكن قارئ ملقنا. لذلك إذا كانت الجوائز أو مجموعة نقاد أو قراء ذوو شعبية يحاولون أدلجة القارئ فلم يعد للقارئ رأي مهم، صار جزءا من القطيع، القارئ مهم حين يكون حرا.
لكل كاتب أسطورته

العرب: يقول إسكندر حبش “لا أحد يجيد التحدث عن أدبه سوى الأديب نفسه”، كيف تتحدثين عن تجربتكِ في كتابة الرواية؟
ليلى المطوع: في أول عمل لي اعتقدت أن للرواية شكلا واحدا، وخطا مستقيما، ثم تغير كل شيء، حين أدركت أن لا قوالب في الأدب أو الفن. أعتقد حين يحاول الكاتب شرح نفسه فهو يسقط في الفخ، على الكاتب أن يكتب فقط ويترك للناقد والقراء التأويل.
العرب: ما هي نظرتك للرواية بعد تجربة كتابة “المنسيون بين ماءين”؟
ليلى المطوع: أشعر بحرية، وأشعر برغبة جارفة في اكتشاف عوالم السرد التي تسكنني، واكتشاف طريقتي في قول الحكاية، أريد أن أذهل القارئ الذي في داخلي، أن أتحداه. حين كتبت رواية “المنسيون بين ماءين” أول اعتراض كان أنها لا تشبه العمل الأول، لا أعلم لمَ يصر البعض على خلق قوالب لمن حولهم؟ والتعليق الآخر هو أنها لا تتناسب مع القارئ الكسول، ونصحني أحدهم بأن أجعلها تتناسب مع هذا النوع من القراء، وهذا مثير لسخرية، القارئ الكسول ليس بقارئي، ومن يريد هذا النوع من القراء فهو كاتب كسول غير مبتكر، ولكني قلت ليكن ما يكن، سأنشرها كما هي.
تبنتها دار رشم، وآمن صالح الحماد بعملي لاهتمامه بالأعمال غير النمطية. سأقتبس هنا مقولة من مقال كتبه الشاعر قاسم حداد حول رواية “المنسيون بين ماءين” يقول “منذ المدرسة كانوا يسمون لنا السرد إنشاءً، فنواصل الكتابة ظنا أننا ننشئ الشيء”.
توقفت كثيرا حول هذه الملاحظة لاعتقاد أغلب الكتاب أن الكتابة مجرد إنشاء لعالم، ربما هذا العالم أو الحكاية من دون معنى. كما أن بعضهم يحسب عدد الكلمات التي يكتبها كل يوم وتكون مثل تحد أو إنجاز. أو حين يقول الروائي الكبير أمين صالح “موت الكورس” أي الذين يقفون ويرددون وراء المغني، هناك راو أصيل ومجموعة من ورائه تعيد ما قاله. هل نحن كروائين شباب نبتكر أساليبنا الخاصة وحكايتنا من خلال وعينا الفردي، وذاكرتنا الجمعية، أم أننا نردد ما قيل لنا، ونعتقد أننا جئنا بجديد؟ هل نحن الكورس الذين قصدهم الروائي الكبير أمين صالح؟
حين يحاول الكاتب شرح نفسه فهو يسقط في الفخ، على الكاتب أن يكتب فقط ويترك للناقد والقراء التأويل
إذا تعلمت شيئا من هذه الرواية هي أن أخلق أسطورتي وأؤمن بها، وحين قابلت الكاتب الكبير إبراهيم الكوني قال لي إن الكاتب هو الذي يؤسطر. وهذا رأي أحترمه من قامة أدبية، الكاتب هو من يخلق أسطورته الخاصة.
تعلمت ألا أهتم بما يريده من حولي، أدافع عن رؤيتي ولا أكون أنا الرقيب القامع لها، فالزمن هو الرهان. أعتقد أن على الكاتب ألا يكتب عملا يتناسب مع متطلبات العصر الحالي، أن يكتب عملا لكل الأزمنة، ولا يتحقق هذا الأمر إذا اهتم بآراء من حوله وحاول الكتابة لأجل إرضاء غيره، سواء كانوا قراء أو دور نشر، أو غيرهم.
قراءة الطبيعة
العرب: ما هي المؤثرات الحسية للكتابة بالنسبة إليك؟
ليلى المطوع: أعتقد أني مرتبطة بالطبيعة، أستخدم حواسي وخيالي لقراءة الأمكنة التي أزورها. في جزيرتي مثلا حين كنت أتبع أثر الماء وحدود البحر، كنت أقرأ ذاكرة الطيور، فهي وحدها من يعرف حدود البحر من اليابسة، تعود إلى بحرها حتى ولو دفن. وفي زيارتي الأخيرة للدرعية، عرفت أين كان الوادي وأين كانت الصحراء، فلا عصافير في المكان الذي أقمت فيه، استغربت هذا الأمر، ثم حين تجولت شدني صوت تغريدها في الوادي، فهناك كان الماء، وفي محل إقامتي كانت الصحراء.
هكذا أقرأ الأماكن من خلال المخلوقات التي حولي، أرفع رأسي إلى السماء وأقرأ الأنواء، كنت أتوه في حقول النخيل بلا هاتف أو خارطة، ولكن كنت أقرأ التفاصيل الصغيرة، أعرف الرياح القادمة من البحر من ميلان النخلة، أعرف أن المطر قادم من النحل حين يهجر خليته وينقل عسله إلى مكان آخر، أعرف حين تولي الغيوم وجهها ناحية الشرق قادمة من الغرب، فهي محملة بالمطر، شيئا فشيئا أعيد تواصلي مع الطبيعة، وأفهمها وأنصت لها، وهي لغة يجهلها الكثير. رغم أنها اللغة الأسمى والخالدة.
تعليقات
إرسال تعليق