واسيني الأعرج يكتب “ليلى تكشف أسرار المنسيين بين ماءين” --Waciny Laredj writes: “Leila unveils the secrets of The Forgotten Between Two Waters”
نشر في ١٦ أكتوبر ٢٠٢٤
القدس العربي
واسيني الأعرج
«لتعبري البحر عليك أن تقرئي وجه الماء، فلن تعبري البحر إلا إذا عرفته».
تشكل موضوعة الماء في الرواية الخليجية، في السنوات الأخيرة، هاجساً حياتياً تتم قراءة الأسرار القديمة من خلاله، سواء من حيث كونه حاجة حيوية قامت من حولها الصراعات والحروب المدمرة، والحضارات أيضاً، أو من حيث كونه حالة رمزية تتوخى أدوات الأنثروبولوجيا لفهمها. نحن أمام قصص تحكمها الحكايات والخرافات والأساطير، المرتبطة بالحياة العميقة للناس. وقد تراكم عددياً هذا الجهد «المائي» حتى تشكل كظاهرة تستحق التأمل والدراسة والفهم.
وكان من حظي، بسبب أسفاري أو تنشيط عدد كبير من الورشات الكتابية في بلدان الخليج كلها، أن قرأت العديد من الروايات التي شكلت موضوعة الماء جوهراً حيوياً وثقافياً وحضارياً اهتماماً كبيراً. وقد شدت انتباهي إحدى الروايات العربية الخليجية بقوة في فترة تنشيطي» لخلوة الكتابة الإبداعية» في الإمارات العربية، وكان من بين الحضور في هذه الورشة كاتبة معروفة هي «لولوة المنصوري»، وسعدت بأني كنت قد قرأت روايتها «قوس الرمل/ ملهاة المهد والماء». وفكرت أن أنظم جلسة حولها لشابات الورشة والشاب الوحيد معهن، حول موضوعة الماء تحديداً، بالاستناد إلى هذه الرواية تحديداً. وكانت الجلسة جميلة في شكل سهرة ثقافية، حيث تم استنهاض كل رمزيات الماء الخفية في مختلف مناطق الخليج، والبحر وأهواله، والصراعات التاريخية والحروب من حواليه، مأساة النواخذة بين متعة «الدانة» وشقاء من يستخرجها، ثم الأساطير القديمة المرتبطة بالماء، ومنها ملحمة جلجامش. وكان الشعر العربي القديم قد سبق إلى ذلك الاهتمام. وبدأت الروايات تتوالى بكل تنوعاتها المختلفة، إلى أن التقيت بالروائية البحرينية الشابة ليلى المطوع، التي تكرمت بإهدائي روايتها في معرض أبو ظبي الأخير. وعندما قرأتها، تأكد أن موضوعة «الماء» أصبحت هاجساً فنياً يستحق كل الاهتمام. والجميل في تعدد المنظورات، التنوع المصاحب له.
داخل هذا الكم، عرفت ليلى كيف تصنع خصوصيتها بروايتها المميزة «المنسيون بين ماءين». أي المنسيون؟ وأي الماءان؟ سؤال يتبادر إلى منذ هذه العتبات النصية؟ أمر كهذا يقتضي جهوداً بحثية كبيرة. وليلى ليست في تجربتها الأولى؛ فقد سبق أن شاركت في 2016 في ورشة البوكر، لعرض مشروعها وتنقيحه أمام المشاركين في الورشة. وسبق أن كتبت روايتها الأولى «قلبي ليس للبيع» التي صدرت في 2012 ولاقت اهتماماً طيباً، وتأتي رواية «المنسيون بين ماءين» الصادرة عن دار رشم هذه السنة، لتعيد طرح سؤال الماء، لكن هذه المرة في ثنائية واضحة تتبطن أسئلة كثيرة تكشف عنها الرواية من خلال سرديتها الهادئة. يجد القارئ نفسه في بلاد هي البحرين، التي لم تذكر ولا مرة، وليست هي: بين ماء البحر وماء الينابيع الذي يصعد من الأعماق محملاً بالأساطير الأشد توغلاً في لاوعي الناس. نلمس بسرعة ونحن نتوغل في النص، أن الماء يتحول إلى هوية تتشكل في عمق الفرد المولود في تلك المنطقة. ولا تتوانى الساردة عن أن تعرّف نفسها أنها «ابنة الماء» [إنا من الماء وإنا إليه لعائدون] أي ابنة هذا التاريخ بكل أمواجه المتلاطمة وأساطيره وحكاياته التي تحتفظ بها الحارات الشعبية إلى اليوم. ويبدو واضحاً الميراث الشعبي الذي اشتغلت عليه الروائية، والذي يرتفع بالحياة نحو مصدرها الموغل في التاريخ. حتى تلامس ملحمة جلجامش الأسطورية الذي ارتحل إلى الماء بحثاً عن عشبة الخلود. وكما استعاد الكاتب البحريني الكبير قاسم حداد شخصية طرفة بن العبد، استعادته ليلى ضمن مناخ آخر مع حضور نفس المؤشرات التاريخية والأسطورية. فشخصية سليمة الافتراضية في الرواية شكلت سنداً حكائياً، إذ تطأ دم طرفة، دون رضى زوجها صفوان. فتصمم أخت طرفة، الخرنق «التي تأكل لحم الجمال» ومنهم تأخذ شدتها وأحقادها وانتقامها. لكن الخرنق بنت ردة فعلها على الحيلة والذكاء والأذى العظيم، إذ دفعت بالأمير إلى أن يهيم في حب سليمة، من شدة ما أنشدت من أشعار عن جمالها، فهام الأمير بها دون أن يعرفها. فطلب الأمير من صفوان التخلي له عن جسد زوجته، فيتحايل هذا الأخير مع زوجته ويبعثان له امرأة جميلة، لكن الخرنق كانت بالمرصاد؛ عندما مر الوالي وصفته بالمخدوع. يعرف الحقيقة من خلالها، فيأمر بصلب صفوان، بينما تختفي سليمة في البحر بحملها الذي تلده بين الأمواج قبل أن تذهب نحو الشاطئ. وعلى الرغم من أن هذا العالم الغني والمدهش يمر عبر سردية ناديا، لكن ذلك لم يسجنها في دائرة السارد العليم المكتفي بذاته، والانغلاق، بل ظلت الحكايات مفتوحة تتخطى الضوابط السردية المعتاد.
ليس مهماً أن يلتبس الأمر على القارئ أحياناً بين الشخصيات المرجعية والتاريخية وبين الشخصيات التخييلية، فقد عرفت ليلى كيف تجمع ذلك كله داخل عالم تخييلي شديد الأناقة والحضور. من هنا، فهذه الرواية يجب أن تقرأ في أفق الأسطورة والمرأة التي تنهض من ورائها شرطيات المرأة اليوم. البحر عندما تسرق من أعماقه الدانة، يثور وتصعد أمواجه عالياً مهدداً بمسح كل شيء في طريقه، فيستجديه البحارة بأن يرحمهم ولا ينتقم منهم. البحر الذي لا يرق قلبه إلا إذا رأى جسد شنانة لكي يعيد لها ابنها الذي ابتلعه. البحر ليس مكاناً فقط، ولكن شريك في الحياة، يغضب ويسعد كما البشر جميعاً.
لهذا اختارت الكاتبة لروايتها الشريط الساحلي في داخل كل واحد من أهل الجزيرة شيء منه. الساحل تتعدد أوجهه، فهو ليس مكاناً فقط، ولكنه تاريخ وأساطير متعاقبة. فهو الفضاء الذي حملت فيه مارا لتنجب ماء، أي الحياة. وهو المكان نفسه الذي ركضت فيه سليمة طويلاً بكل قواها لتنقذ نفسها ووليدها من الوالي الذي دمرته الخديعة. وهو مدار آيا ناصر حول نفسه بلا كلل، بحثاً عن والده، والساحل عندما يخدع، يلبس جلد الأرض في منطق الدرويش، هو المكان الذي ردموه ليبنوا عليه أمكنتهم الضيقة، حتى النوارس الجاسوسة تجد فيه مرجعها.
من هناك خرجت النسوة تقودهن هند دفاعاً عن الأرض والعرض ومحاربة الأسطول الذي إذا انتصر سيأخذهن سبايا. فقد ارتفعت ليلى بنصها علياً كلما تعلق الأمر بحالات المأساة. لم تكتف بالوجه المكشوف للماء، ولكنها صنعت منه تاريخ وأساطير روايتها. ليست الينابيع الحلوة في عمق البحر في النهاية إلا بقايا نساء دفن في البحر. وراء هذه العوالم الأسطورية تتخفى محنة البشرية كلها: تيه آدم وحواء، سفينة نوح المتمايلة في البحار العاتية، أنكيدو ومأساة جلجامش الضائع في البحث عن المستحيل. هذه العناصر الكبيرة المرتبطة بالمصائر البشرية تحتاج حتماً إلى دراسة عميقة لاستخراج «دانات» النص دون تهديمه.
المصدر القدس العربي
****
Waciny Laredj writes: “Leila unveils the secrets of The Forgotten Between Two Waters”
This is a novel that ought to be read within the horizon of myth, and through the women who rise from it to embody the conditions of today’s woman.
Waciny Laredj
“To cross the sea, you must first read the face of the water; for you shall not cross the sea unless you know it.”
In recent years, the motif of water has become a profound obsession in Gulf fiction, a lens through which ancient secrets are read—whether as a vital necessity around which wars and civilisations have long revolved, or as a symbolic presence explored through anthropological tools of meaning. These are stories governed by fable, myth, and legend—woven into the deepest rhythms of people’s lives. Over time, this watery endeavour has accumulated into a phenomenon deserving of study, reflection, and understanding.
By fortune of my travels, and through the many creative writing workshops I have led across the Gulf, I have encountered a wealth of novels in which water was not merely a theme, but a living cultural and civilisational core. One that captivated me profoundly emerged during my residency in the UAE, when I led a session on water in Gulf writing, prompted by Lulwa al-Mansouri’s novel Arc of Sand: A Masquerade of Cradle and Water. That evening became a cultural salon in which all the hidden symbolisms of water—sea perils, historical conflicts, ancient myths such as the Epic of Gilgamesh—were evoked with passion.
Gradually, the novels multiplied, each offering its own vision, until I encountered the young Bahraini novelist Leila Al-Mutawa, who graciously gifted me her work during the Abu Dhabi Book Fair. Reading her The Forgotten Between Two Waters confirmed that water is no longer a passing metaphor in Gulf literature, but an artistic obsession. What makes Leila’s contribution striking is the uniqueness of her voice within this expanding current.
The very title poses questions: who are the forgotten, and which are the two waters? Such a premise demands intellectual excavation. Leila, however, is not a novice. She had earlier taken part in the 2016 International Prize for Arabic Fiction workshop, refining her project before her peers, and had already published her debut My Heart Is Not for Sale (2012). Her new novel, published by Rashm in 2025, returns to the enigma of water—this time as a duality, laden with questions that her calm, steady narrative gradually unveils.
Though never named, the setting is unmistakably Bahrain, poised between the salt waters of the sea and the fresh springs rising from its depths, heavy with myths embedded in the collective unconscious. Water here is not mere backdrop; it becomes identity itself. The narrator introduces herself as a “daughter of water—[from water we came, and to water we shall return]”—the inheritor of waves, legends, and tales still alive in the old quarters. Her craft draws deeply on popular heritage, yet elevates it towards the mythic source, touching even Gilgamesh’s quest for the herb of immortality. Just as Qassim Haddad reimagined Tarafa ibn al-‘Abd, Leila too revives him, though in another atmosphere, alongside the invented figure of Salima, entangled with Tarafa’s sister al-Khurnaq—whose cunning, vengeance, and hunger for survival drive a tragic cycle of desire, betrayal, and loss.
What makes the novel compelling is not its fidelity to history, but its fearless blending of reference and invention. Leila gathers myths, memories, and imagined destinies into a fictional world of rare elegance. Hence this novel ought to be read within the dimension of myth, where women emerge as archetypes—bearing forward the conditions, struggles, and resilience of women today.
Here, the sea is no passive setting but a living partner. When divers steal its pearls, it roars in fury, waves rising high enough to obliterate everything. Only when supplicated by sailors does it show mercy. It is the sea that will not soften until it beholds the body of Shanana, begging for her drowned child to be returned.
Thus, the choice of coastline is not incidental. In every islander lies a fragment of shore. The coast is at once place, history, and legend. It is where Mara bore the child of water—life itself. It is where Salima, pregnant and betrayed, ran desperately to save her body and her unborn from the governor’s cruelty. It is where Aya Nasser circled tirelessly in search of his father. Even the seagulls—spies of the horizon—trace their origins there.
From that shore, women once rose, led by Hind, to defend their land and honour, facing the invading fleet that threatened to enslave them. Leila’s prose ascends with each tragedy, refusing to confine water to its visible face; instead, she shapes it into the very fabric of history and myth. For the sweet springs deep within the sea are, in her telling, the remains of women buried beneath the waves.
Behind these mythological worlds lies humanity’s universal plight: the exile of Adam and Eve, Noah’s fragile ark adrift on tempestuous waters, Enkidu’s demise, and Gilgamesh’s despairing quest for the impossible. Such vast symbols of human destiny demand deep reading, so as to extract the hidden pearls of this text without shattering its mystery.

- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
تعليقات
إرسال تعليق