«المنسيّون بين مائين»: رواية كتبت على الماء 🌊 محمد آيت حنا

 










حضرت عددًا من ورشات الكتابة التي أعدّها الكاتب العراقي محسن الرملي، وكان من بين المبادئ التي شدّد عليها: ضرورة التخفّف من الإطناب، حتى لا تُفسِد التفاصيل الزائدة جمالية الرواية. ربما هو محق، خصوصًا في ظل ضغوط بعض دور النشر التي تربط صفة «رواية» بعدد معين من الصفحات. ومع ذلك، لطالما تساءلت: متى تحوّلت الكتابة المقتضبة، القريبة أحيانًا من التقرير، إلى غاية أدبية بحد ذاتها؟

في زمنٍ تُختزل فيه اللغة إلى أوامر وتعليمات، إلى إشعارات تنبّهنا ومراسلات تنظّم يومنا، يبدو المجاز كأنه ترفٌ أو حنين إلى بلاغة لم تعُد تُقنع أحدًا. لكن الحقيقة أعمق: المجاز ليس زخرفًا، بل ضرورة. نحن لا نتحدث فقط لنُبلِّغ رسالة، بل لنُوجِد لأنفسنا مكانًا في عالم لا يكفّ عن التصلّب. حين نقول «انكسر قلبي»، لا نريد الدقة العلمية؛ نريد أن نمنح الألم شكلًا يقبله العالم.

الواقع النثري لا يسعفنا حين نريد وصف الغياب، أو الحنين، أو شعور مباغت بالجمال ونحن ننتظر قهوتنا. المجاز، وحده، يفتح نوافذ في جدار القسوة. هو ما يسمح لغريب أن يستقبلني في المخبز صباحًا قائلًا: «الضوء اليوم غايةٌ في الجمال»، فأشعر أن اليوم بأكمله صار قابلاً للعيش.

لهذا، لا يُختصر المجاز في جمال اللغة، بل في حاجتنا العميقة لأن نقول شيئًا لا يُقال، بطريقة تجعلنا أقل وحدة، وأكثر حضورًا.

في هذا العدد، يحدثنا الكاتب والمترجم المغربي محمد آيت حنا عن رواية عُبّدت فصولها وسط البحر، بصبر وأناة وسنوات من البحث والاستعداد، وأضمن أنها ستثبت نفسها ضمن أهم الأعمال الأدبية الخليجية والعربية في القرن الواحد والعشرين، وأحدثكم في «هامش» عن الوغد الذي أحببته، بالإضافة إلى جديد الإصدارات والتوصيات.

إيمان العزوزي


Imran Creative
Imran Creative

«المنسيّون بين مائين»: رواية كتبت على الماء 🌊

محمد آيت حنا

ما من شيء أشدّ ازدواجًا من الماء. هو أصل الخليقة ونهايتها. حياة الغريق وموته، نعمة الناجين ونقمة المفقودين. لا يستقرّ على حال، ولا يُمسك بيد. يتسرّب، يتغيّر، يُنعش ويُهلك، يُغذّي ويُغرق. ومن هذا التوتّر العميق، تنطلق رواية «المنسيّون بين مائين» للكاتبة البحرينية ليلى المطوّع، حيث لا يظهر الماء عنصرًا طبيعيًّا أو خلفيّة مشهديّة، بل يتقدّم بوصفه كيانًا سرديًّا، مزدوجًا، نابضًا، وكأنّه الكلمة الأولى في جملة لم تُكتَب بعد.

منذ الجملة الأولى، حيث الجسد الأنثوي يطفو بين سطحين، يدخل القارئ فضاءً برزخيًّا معلّقًا بين العذوبة والملوحة، بين الحياة والموت، بين البحر والنبع، بين النسيان والكتابة. الماء هنا ليس مجازًا، بل مادةٌ روائيةٌ حيّة، يُبنى منها النصّ، ويُحوَّل عبرها المصيرُ الفرديّ إلى سيرة جماعية، تتخللها الأطياف والأنين والصمت.

توتّر الماء: بين الحياة والموت

في الرواية، لا يُنقِذ الماء ولا يُميت فقط، بل يحبس الكائن في لحظة ارتعاش بين الطرفين. هو الهاوية التي نُلقى إليها، والمهد الذي نُولد منه. ليس من قبيل المصادفة أن تكون البداية من الغرق، ولا أن تنتهي الحكايات عند الشاطئ. فالماء يحرّك الشخصيات كما تحرّك الأمواج القوارب الصغيرة: لا تمضي وفق إرادتها، بل وفق مدٍّ خفيٍّ، متقلّب، لا يُستعاد ولا يُتوقّع.

في هذا التوتّر، تتشكّل الشخصيات، خاصة النسائية منها، بين حنين لماء الطفولة وخوف من ماء الغرق. وما البحر إلا امتداد لذاكرةٍ لا تستقرّ، تتشكّل بفعل الفقد، وتُروى على لسان نساء تتقاطع في أجسادهنّ الموجات والصرخات والحكايات المنسيّة. الرواية لا تبحث عن البدايات، بل تنقّب في أطلال الغرقى، وتسمع النداءات التي لم تصل يومًا إلى البرّ.

كتابة البرزخ: بين عالمين، بين مائين

«ناديا»، إحدى شخصيات الرواية، لا تكتب بالقلم، بل بالارتعاش، بالصرع، بالرؤيا. كأنّ كل كتابة حقيقيّة لا تُولد من الصفاء، بل من الحافة، من الهذيان الذي يعقب الصدمة. بين عالَمَيْن -عالم الذاكرة وعالم الغياب- تتناثر الكلمات، وتبحث عن شكلها. وفي هذا البرزخ تحديدًا، يُعاد تركيب المعنى لا عبر البناء، بل عبر التهشيم.

إنّ الرواية بأكملها تجسيد لفكرة الكتابة بما هي عبور، لا استقرار. كل سرد فيها هو حركة في ممرٍّ ضيّق بين عالمين، لا يستقرّ على أرض صلبة، بل يُكتب فوق رمل مبلّل، قابِل للزوال. تمامًا كما أنّ البحرين، تاريخيًّا وجغرافيًّا، تقع بين ماءين، فإن الرواية تقع بين لغتين: لغة الطفولة العذبة، ولغة الواقع المالح. وهكذا، تتحوّل كل حكاية إلى محاولة مستحيلة لربط طرفين لا يلتقيان إلا لحظة الغرق.

الماء محوًا والماء كتابةً

من قلب هذا التوتّر، تتولّد الكتابة المائية. لا شيء فيها ثابت، لا جملة تُستعاد بالشكل نفسه، لا ذاكرة تُروى دون أن تُخدَش. فالماء، وهو رمز المحو، يصير في الرواية أداةً للكتابة. لكنها كتابة لا تُنقش على الورق، بل على الأجساد، تُهمس في الرؤوس، تُستعاد في نوبات الاضطراب، كما لو أن الرواية نفسها كُتبت في هواءٍ رطب، يُمحى بمجرد النظر إليه.

الذاكرة في هذا العمل ليست أرشيفًا محفوظًا، بل أثرًا غائمًا. لا وثائق، بل ارتعاشات. لا يقين، بل خيوط متكسّرة. وكل محاولة للحكي تتحوّل إلى تمرين على الغياب، على الانفصال، على تعقّب الأثر قبل أن يزول. ولهذا، يمكن القول إن كتابة ليلى المطوّع ضربٌ من المعارضة لقول لبيد «وَجَلا السُّيول عن الطلول»، إذ يتحوّل صدر البيت الشّهير في الرواية إلى: «وَجلا الطُّلول عن السيول». من أطلال الذاكرة يُستعاد الماءُ في عملية تناوبٍ سرديٍّ وصراع أسطوريٍّ، بين من يحاولون ترويض الماء ومن يخضعون إليه. كلّ شيء عابر، وكلّ حكاية محتملة، وكلّ أثر معرّضٌ للذوبان.

من الكتابة إلى الانمحاء

«المنسيّون بين مائين» ليست رواية عن البحر، بل رواية كُتبت على البحر، وفي وجهه، وضده. لا تقول الحكايات، بل تبحث عنها في ارتجافات الجسد، في رعشات الغرقى، في صمت الذين لم يعودوا. وكلُّ كتابة فيها تُشبه ارتطام الموج بالحجارة: لحظة ضوء، ثم زوال. لا يمكن استعادتها، لكن يمكن الإصغاء إلى صداها، كما يُصغى إلى الأنين الذي يتبقى بعد النداء.

ولعلّ تأمّلاً لمفردة «بحر» -على ما فيه من سطحيّة- ينبّهنا إلى أنها تُخفي في جوفها كلمةً أخرى: «حبر». وإنّ تبديل موضع الحروف لا يلغي دلالتها، بل يبدّل مصيرها: من ماءٍ لا يُمسَك إلى مدادٍ لا يُمحى. ومن هذا اللعب الخفيّ تنبثق إحدى أجمل مفارقات الرواية: إنها تُكتب بحبر البحر، وتسعى إلى أن تُثبّت ما يُفترض أن يُمحى. فكما يلتهم البحر الوجوه والأسماء والأصوات، كذلك يحاول الحبر أن يُنقذها، أن يمنحها مقامًا على الورق، أن يجعل من زبد الذاكرة جملةً تُقرأ.

بهذا المعنى، فإنّ كتابة البحرينيين – ومن ضمنهم ليلى المطوّع– ليست فقط حنينًا إلى البحر، بل مناظرة تاريخية معه. البحرُ أخَذ، فكتَبوا. البحر محا، فحاولوا الترسيم. البحر غيّب الأثر، فحاول الحبر أن يترك أثرًا مقابلًا، أن يطبع اسمًا في الزمن. لكن الحبر نفسه ماءٌ، مائع، يذوب، قد يتسرّب من الورق كما تتسرّب الأرواح من أجساد الغرقى.

إنّ الكتابة، في «المنسيّون بين ماءين»، لا تنقذ من الموت، لكنها تمنح الغرقى نداءً أخيرًا. هي لا توثق، بل تهمس. لا تؤرّخ، بل تُشير. لا تقول: «كان هنا إنسان»، بل تترك أثرًا خفيفًا كالماء على الرمل، لا يُرى إلا إذا مرّ عليه ظلّ النسيان.

وهكذا، فالرواية لا تُنهي الحكاية، بل تتركها معلّقة، مشرعة، تُحكى وتُنسى، كأثر ماءٍ على رملٍ لم يجفّ بعد. وبين البحر والحبر، حكايات الإنسان الواقف على الحدّ: يكتب كي لا يُمحى، ويحكي كي لا يُنسى، ويعلم أنّ كل كتابة، في النهاية، هي أيضًا غرقٌ مؤجَّل.


https://blog.thmanyah.com/post/1m5nexyzs4_1jhggnmybp



تعليقات

المشاركات الشائعة