جزء مسرب من القلب


جزء مسرب من القلب
شعرها الأسود ملتف كجديلة، يلتف حولها خيطا رفيعا من الياسمين، قطفتهُ صباح اليوم، وشكته كعادتها في خيط، وعيناي تراقبانها، تبتسم وتصنع لي اسوارة من الياسمين اضعها في معصمي، اقترب منها ، أدفن انفي في شعرها، واستنشقها .. يذبل الياسمين ويموت وتبقى رائحة أمي عالقة في الذاكرة
شعر أمي كان دائما ملقى على الوسادة وخيط الياسمين قد ذبل ، أضع راسي على شعرها وأصابعي الصغيرة تنام بكل طمأنينة في كفها، وحرارة جسدها ودفئها مازال بين يدي وكأني لمسته منذ لحظات، أغلق جفني واسمعها تغني أغنية شعبية حتى أنام .. تغني " لوميه خضرا خضرا في يد عبدالرحمن يقشرها عبدالله وياكلها سلمان .. صوتها يدخل في داخلي ، يصل حتى احلامي ..
واليوم أقود السيارة في طريق يمتد ويمتد وذهني عالقا في شعر أمي، شعر أمي الذي أنهكه السرطان ، وصوتها اسمعه يردد الدعاء .. أتنادينه يا أمي .. أتناديه ليحفظ لكِ تلك الفتاة الصغيرة ذات الشعر الملتف القصير؟ أتناديني يا امي ..
أتعلمين أني خائفة من ان افقد رائحتك .. أن لايكون لي من الوقت أو العمر نصيب لأعود وادفن انفي في سواد شعرك، ان المس حرارة يد الآمنة؟
أريدك لأصنع من أحلامك واقعا تعيشينه، أمد لكِ يدي فيؤلمني صدك.. اصرخ منادية بكل حنين فلا أجدك إلا في حفنة ياسمين ملقاة على سطح المكتب، أني لست بقادرة على نسيانك، افتقدك .. افتقد حكاياتك قبل النوم، افتقد كوني طفلة تخاف من الظلام فلاتنام فيه إلا وأمها بجانبها..
اكره عجزك .. فطمت ُنفسي من حليب الضعف الذي كان يخرج من صدرك.. كنت دائما تقولين .. أنت الوحيدة التي لم ترد حليبي .. كنت تبكين كلما وضعت ثدي في فمك ، لم أرفضك يوما، ولم ارفض أي شيء منك لكنك حاولتي ارضاعي ضعفك المتوارث في نساء العائلة ..
أريدك .. وبشدة ، واعلم أن ظلام العالم سيحل على قلبي ما ان تغرب شمسك ... قلبي باراً بك ، كل ما احتاجه هو أن تتجاوزي  ضعفك وتصرخي في وجوههم هذه ابنتي سأتقبلها كما هي عليه .. كما تقبلت كل نساء العائلة ذكورها بكل مافيهم من شرور
أحبيني فانا استحق حبك .. أحبيني وحتى أن لم يكن لي عضوا ذكريا بين ساقي .. من أكون أنا أن لم تحبني أمي .. أن لم تقبلني كل نهار وتجمعني بين كفيها كدعاء وتنثرني في السماء
مخاوفي تكمن في أن أكون أنا أنت في يوم .. لا أريد ان ينجبك الزمن فيني
ما ذنبي انا الصغيرة بأسنان تساقطت وشعر مموج فوق رأسها .. ولمعة عين تبلغ كل أفراد العائلة لقد عادت من جديد ، تلك المرأة التي صرخت في وجه ابن عمها البدوي .. زوجها .. بعد أن وجدت الحب في الصبي الذي يصب القهوة في المجلس، أحبته وتمردت لأجل حبها .. تلك المرأة ذات الشعر الأحمر والعيون الخضر عادت مرة أخرى لتسكن جسد الطفلة .. تلك الطفلة التي أرعبت رجال العائلة بعدما هدأت أنفسهم بوفاة ذات الدم الفارسي المختلط بالعربي .. حتى بعد موتها كانت تؤلمهم  لأنها ركلت عاداتهم وتزوجت "صباب القهوة" افتح الصندوق الخشبي لوالدي فأرى صورها معه وهي تبتسم بسعادة .. بفستان كان موضة سائدة في الخمسينيات من القرن تمسك بيدها زوجها الذي قاطعها الجميع بسببه


ولكنها سعيدة .. وأنا اليوم سعيدة حتى لو كانت سعادتي ليست تلك التي رسمتيها لي .. انا سعيدة فتقبليني واحتويني بين ذراعيك لأشم رائحة الياسمين قبل فوات الأوان . 

تعليقات

المشاركات الشائعة