الجلاد والضحية


الجلاد والضحية مقال منشور في موقع ارفع صوتك 



حين كنتُ أجلس على ذلك المقعد، منذ أكثر من 10 سنوات، تُكبلني قطعة قماش أسود أجبرت عليها، وقد هجرتني والدتي للتو. ذهبتَ مع معنّفي، الذي أثبت قوته الذكورية على جسدي، محاولاً بضرباته تفتيت كياني الذاتي. وأنا وحيدة في ذاك الوقت، في مركز الشرطة، مُعَنفة، مخذولة، عاجزة. لا مكان يستقبلني. يبحث رجال الشرطة عن مأوى لي، لحين أعود لرشدي، أكون فتاة عاقلة، تُضرَب، تَصمُت، تَخضَع، حسب المجتمع ولكن ليس في عرف القانون.

رجال الشرطة الذين كبُرت أمام أعينهم كانوا لطيفين معي، خائفين أن تضيع هذه الفتاة الشابة التي لا يتجاوز عمرها 20 عاما كقصص من قبلي عن فتيات تركوا عائلاتهن والتهمهن الضياع. كعادتي، ولسنوات طويلة بعدها كنت أرفع رأسي للسقف. أحدق فيه. أفكر كيف أتخلص من هذا الجحيم؟ أردد هذه القصة بداخلي دائماً.

مرت أعوام بعد تركي لمنزل العائلة وإخضاع نفسي لجلسات علاج عند أطباء نفسيين كي أقتلع العنف الذي زرع بداخلي. أقول لنفسي: لن أكون عبرة تتناقلها الأجيال عن تلك الفتاة التي خرجت من المنزل وضاعت، كما يزجون في أذهاننا. وعلى العكس، أصبحتُ قصة عن الفتاة التي رفضت العنف وقالت لا وهربت لتؤمن نفسها. وكانت القوة الاقتصادية هي أول طريقة لتحرري من كل ما تعرضت له. أنا، التي ذقت كل أنواع العنف النفسي والجسدي قبل أن أعرف أن المشاعر التي أكنها في قلبي لمُعنّفي تسمى كراهية.

هذه التجربة، عشتها أنا وغيري كثيرات، تترك آثاراً نفسية. هي معدية وإن كانت غير واضحة. فالبعض لا يدرك ما هي. ينشأ مجتمع مؤمن بتسلط الآخر عليه. لا يعرف كيف يثبت أنه على حق من دون إيذاء الآخر. إذا فتشنا أكثر عن جوهر العنف، في أغلب الأوقات سنجد أنّه طريقة تواصل خاطئة، متوارثة، بدائية. ولعلنا حين نراقب من حولنا فسنجدها منتشرة في كل مكان وتكشف عن ذاتها في مواقف مختلفة، مثل أم تصرخ بطفلتها كي تلتزم الهدوء، وبعد أن تفشل تمسكها بقوة من ذراعيها وتجلسها مكانها، بينما صراخ الطفلة يتعالى. الأم تشعر أنها مشتتة لا وقت لديها لتسأل ابنتها عن سبب بكائها. مع الأطفال تحتاج إلى الصبر. لذلك ما أراه لا يعد لغة ولا حوار. ما أراه لا يعدو أن يكون مجرّد أوامر. الأم تشعر أن وقتها أضيق من النزول لمستوى ابنتها وسؤالها عن سبب انزعاجها. لعلها تعلمت الطريقة من والدتها، ربما عايشتها. الأم بلا شك تحب أبنتها. لكن المجتمع الذي يكبر أطفاله على العنف، يخلق لنا تكرارا. المجتمع غير الواعي يكرر نفسه، لا يدرك ما هو الحب مثل حالة الأم مع طفلتها. يعتقد أن ايذاء الأخر، جسدياً، لفظياً، كي يخضع له ولأوامره التي يؤمن أنها الصواب وفي مصلحة المتلقي، وأن الطريقة التي يستخدمها في التواصل هي حق مشروع له. المشكلة أننا لا نعرف من هم الأشخاص الذين يربوننا بحق. نأتي إليهم كأشياء مملوكة، بدافع وبحكم الجينات الأنانية الباحثة عن الخلود يعتقدون لا شعورياً أننا تكراراً لهم، ليقحموا ذواتهم بداخلنا وحين نرفض أن نكون نسخاً مكررة تنشأ العداوة.

ويمكننا القول إن العنف هو نوع من أنواع الصراع على السلطة والبقاء فيها، كما في القصص التاريخية. صراع بين الخير والشر يُستخدم فيه العنف للحصول على الهيمنة. لذلك، في العادة الفرد الذي يستخدم العنف في أغلب الأحوال خائف من دون إدراكه لوضعه. يتصرف بطريقة غير واعية وربما يكون هذا الخوف ناشئا من عقدة في الماضي. لذلك يتصرف بدافع غريزي. وحين يخاف الإنسان أو الحيوان، يدافع عن نفسه بالهجوم، إذ هو دفاع عن الذات من أجل استمرارها، غريزته التي يعتقد من دون وعي أنها مشروعة.

المشكلة هنا أن الضرب ليس منبوذاً بشكل كافي. الملكية تعود للوالد "السلطة الأبوية" التي تنتقل بالدور للأخ الأكبر كوريث لعرش الأسرة. كما أنهم يستندون إلى نصوص ورثوها، سواء دينياً أو من عادات و تقاليد، كمثل صديق يمازح رجلا متزوجا "اضربها ، الشرع يحل لك هذا الفعل"!

لعلنا رأينا أكثر من مرة مقاطع منتشرة في مواقع التواصل الاجتماعي لرجل يضرب أطفالاً. يتناقلونها على أنها مقاطع مضحكة. وأشهرها “العم معيض”. المشكلة هنا تبجح الكبار بتعرضهم للضرب في طفولتهم، وعدم تأثيره عليهم في المستقبل! يرون أنفسهم أصحاء، ولا يعون أن العنف الذي مورس عليهم، ينقلونه الآن لأبنائهم. كما أننا نواجه مشكلة أخرى، وهي التماهي مع المتسلط وتشجيعه على ممارسة هذا الفعل، الإيذاء اللفظي والجسدي.

ولكن من ناحية أخرى، هل الرجل الذي يستخدم قوته في إيذاء الآخرين هو جلاد أم ضحية؟ إننا هنا أمام ازدواجية. صاحب السلطة الذكورية يعنف الأفراد الذين يشعر أنهم مملوكون له بسبب ضغط المجتمع عليه. فالمجتمع ينبذ الحالات الشاذة التي لا تتماشى مع عرفه السائد. مما يجعل صاحب السلطة يلجأ للضرب أو للألفاظ السيئة لإعادة الفرد المملوك مثلما يؤمن لصوابه حتى يحمي مكانته في المجتمع. لذلك هو من ناحية أخرى ضحية للمجتمع الذي يفرض عليه قيوده وأوامره. هي شبكة لا تنتهي بسبب المؤثرات الخارجية التي تسلب الإنسان حريته، وتجبره على الخضوع.

نحن نحتاج إلى قوانين تطبق على أرض الواقع، وتؤسس أن دخول المرأة مراكز الأمن لحماية نفسها حق متاح وليس فعلا شائناً، وأن تُمنع مشاهد العنف في المسلسلات العربية بدلاً من إصرارهم على منع مشاهد الحب. نشر ثقافة التواصل الصحيحة، الحوار، الاشمئزاز ونبذ العنف ومن يستخدمه. إيذاء الآخر ليس أمرا مضحكا. ليس قوة. ليس وسيلة متحضرة. التساهل معه يخلق لنا أطفالاً متنمّرين. وفي النهاية، يجب على المرأة، بما أنها أكثر من يتعرض للعنف، أن تؤمن نفسها اقتصادياً كي لا تكون تحت رحمة رجل يعنفها



تعليقات

المشاركات الشائعة