«المنسيون بين ماءين».. غرقنا ولا نريد الصعود - إبراهيم عبدالمجيد
الروائي إبراهيم عبدالمجيد
«المنسيون بين ماءين».. غرقنا ولا نريد الصعود
16 يناير 2025
قرأت منذ أيام هذه الرواية الرائعة للكاتبة البحرينية ليلى المطوع. الرواية صادرة عن دار رشم السعودية في 432 صفحة من القطع المتوسط.
قبل الحديث عن الرواية أحب أن أشير إلى أنه الآن عشرات من الكاتبات العرب المجيدات، يثرين حياتنا الأدبية برواياتهن أو أشعارهن أو كتابتهن النقدية. لم يعد هناك الآن معنى للقول بالكتابة النسوية التي تعني حقيقة الكتابة عن المرأة وما تواجهه في هذا العالم، والتي كثيرا ما تُبتذَل إلى معنى ساذج إنها الكتابة التي تكتبها المرأة فقط. سيظل المعنى الأول هو الحقيقي سواء كتبه الرجال أو النساء. نحن هنا مع رواية شديدة الطموح لابد أنها استنفدت من الكاتبة سنوات طويلة في جمع مادتها، التي تتحول هنا إلى سرد قصصي رائع يصنع ما يشبه الملحمة، في العلاقة بين البشر والبحر والتاريخ في البحرين وما حولها من مياه. تتعدد شخصيات الرواية الحقيقية أو الأسطورية بين سليمة وناديا وإيا ناصر وإنانا وبينهم الجدات والأمهات، وتتعدد ضمائر اللغة بين ضمير المتكلم والغائب، وتقفز الكاتبة الرائعة بينها صانعة ملحمتها، وهذا أقل ما يقال عن الرواية. البحر واليابسة في البحرين هما منبع الأحاديث والأحداث، ما بين ذكريات ساحرة أو سحرية، وبين واقع حالي أقام كثيرا من المدن على ردم البحر أو الانتقاص منه. يبدو للقارئ أن ما بين يديه أمر سهل، فالرواية حافلة بالحكايات والأساطير للجدات والصيد والينابيع المائية والجنيات اللاتي كن يصطدن الصيادين، وغير ذلك مما حملته الذاكرة الفردية والجماعية. البحر هو البطل الضائع ولا يفنى من الذاكرة بين الماءين المالح والعذب. وكما كان هناك غوص بحثا عن اللؤلؤ يوما، فهنا غوص في الماضي الحافل بلؤلؤ الذكريات والحكايات لتصل إلى أيام ردم البحر وانتشار اليابسة. حكايات شخصياتها مثل ناديا وقصص جدتها وليس ذلك فقط، بل كل المخاوف والطقوس اليومية أو الدينية أو السحرية، لا زالت تأتي مع حركة الموج، فاليابسة لا تعني ضياع الماضي الذي يسكن الأرواح. الجانب الخفي بسبب براعة الفن والرؤيا وتجسيد الأحداث هو الصراع الذي لا ينتهي بين الإنسان والطبيعة. ومهما ينتصر الإنسان على الطبيعة فلن تغيب الحكايات. النخل والنوارس والسفن والصيادين والشيوخ وغيرهم لا يبتعدون عن الدهشة التي تأخذ بنا من سحر السرد، وإدراك كم الكتب من التاريخ عن البحر منذ الأساطير الآشورية، والشعر والفولكلور والأغاني وغيرها، لتبدع بكائية للبحر أقلها إحياء الطقوس والقرابين التي كانت تلقى للبحر ليحمي المولود الجديد وغير ذلك كثير جدا. وتصنع بذلك رواية متقدمة للغاية في التجريب بدمج ذلك كله ليكون سردا فنيا باهرا.
«المنسيّون بين ماءين» رواية جديدة، للبحرينية ليلى المطوع، ليس انتاجا فقط لكن شكلا وتجديدا في الكتابة، تنفرّد في تناول موضوع البحر وخصوصيّته الثّقافيّة، وطقوسه وأنماطه الحياتيّة الّتي يُكرّسها. وكل شخصية تحتاج مقالا متفردا عنها بين الواقع والأسطورة وطرق الحكي التي لا يملها القارئ قط. هي رواية البحرين عبر ستة آلاف عام تمزج فيها بين الواقع والخيال كما قلت فلا تفرق بينهما. البحرين بما أتي عليها من تقلبات وتغيرات في الحياة والعقائد والشعبيات، مع تحيز للمكان وإبراز الأزمنة في حكاياتها التي تحمل سماتها ولا تزال في العقول والأرواح.
هذه الرواية لا أخجل من وصفها بالملحمة عابرة للزمن. عن نفسي غرقت في هذه الرواية ولم أشأ الخروج، حتى بعد أن أنهيتها في ثلاثة أيام من فرط الجمال، ولا بد أن هذا سيحدث لكل قارئ.
تعليقات
إرسال تعليق