رواية "المنسيّون بين ماءين".. العودة إلى رحم الأرض.
مقال الشاعر أحمد رضي عن رواية المنسيون بين ماءين
نشر في ١ ديسمبر
رواية "المنسيّون بين ماءين".. العودة إلى رحم الأرض.
رواية جميلة بأسلوبها السوريالي، وملاحظاتها الذكية، وحفرها في التاريخ الثقافي عبر علاقة الإنسان بالطبيعة. ولكن شيئا فيها - لا علاقة له بالعمليّة الابداعيّة للرواية طبعًا- جعلني أُشغل الفكر بدل التماهي مع حلمها. إذ تنتصر الرواية للطبيعة على حساب الإنسان، حيث تتحول البطلة إلى نخلة، أي إلى الحالة السكونية في الحياة، ومن حولها الماء المالح والعذب. بمعنى رمزي آخر، العودة إلى ماء رحم الأم. إلى الماضي الأسطوري الخالد والسرمدي.
حيث ترى الرَّاوية أنّ الهويّة تتشكّل من خلال الطبيعة ـ في حالة البحرين : تتشكل من خلال الماءين بين البحر والعيون المتفجرّة. ومن خلال تعدّي الإنسان على تلك الطبيعة بدأ يفقد هويّته. وعندما عادت الطبيعة لتأخذ ما تعدّى عليه الإنسان، عبر عودة تفجّر العيون التاريخيّة المندثرة في ظاهرة غريبة، وعودة النوارس إلى الأراضي المدفونة، التي رافقتها عودة الذاكرة إلى كبار السن بشكل غرائبي، وعادت معهُ أيضًا الخرافات والأساطير والجن. كما لو أن الطبيعة تنتقم.
نتلمس في كل صفحة من الرواية الشعور بالبلل والنداوة، وهناك مشاهد تحفر في الذاكرة (مشهد الولادة في البحر، واختلاطه بماء الرحم، طقوس الخصوبة الأسطورية، مداعبات مع جنية العين السائلة في العين).
في تلك العودة إلى الماضي، تستطيع الرَّاوية انتقاد الحاضر. ولكن أفق الرواية مسدود في رؤية قاتمة كما هي في المخيال الشعبي عبر نبوءة غرق الجزيرة في البحر مستقبلا.
إن كنت سأتعلّم شيئًا من "يوكيو ميشيما" الروائي الياباني الذي انتحر عام 1970م بطريقة الساموراي ـ شق البطن بالسيف ـ باحثًا عن روح اليابان المفقودة في اتفاقيات السلام مع أمريكا، إن كنت سأتعلم شيئًا منه فهو التالي: العودة غير ممكنة إلا عبر قتل الذات. وأما التشبث بالحاضر وحسب، فإنه لن يؤدي سوى إلى التفاهة، وهي في حالة اليابان: إدمان الألعاب التقنية والعودة الفلوكلورية للماضي. بينما هي في حالتنا تتمظهر بالنزعة الاستعراضية للمأكولات الشعبية، حتى كاد "البلاليط" أن يكون رمزًّا للانتماء الوطني.
وهكذا سنجد الموت في أغلب فصول الرواية، الأبطال يموتون ولكنهم ينقلون ذاكرتهم/ هويتهم.. إلى حفيدتهم بطلة الرواية المصابة بالصرع في العصر الحديث.
تفتح رواية المنسيون أسئلة للمناقشة، وخاصّة ما له علاقة بالهويّة:
صحيحٌ أننا صنيعة الطبيعة، ولكن ليس عبر التماهي معها وتقديسها، وإنما عبر الصراع والعمل عليها ومعها، في علاقة تبادلية بين الخضوع والإخضاع. فبساتين النخيل الشاسعة التي كانت، وأفلاج الماء الممتدة تحت الأرض، ليست حالة طبيعيّة عذريّة، وإنما جاءت عبر العمل، بمعنى آخر: هي ليست طبيعيّة تمامًا. تستسلم الرواية للطبيعة الموجودة في سر الجزيرة أي النخلة الأخيرة.التي هي أيضا، الأنثى المعتدى عليها، وتحرسها إناث محزوزات الشعر. كما لو أن الانتصار للطبيعة هو الانتصار للأنثى. يبقى علينا أن نخمن العلاقة بين الماء والنسيان. إذ ليس للماء من ذاكرة تاريخية، فهو بيث الحياة في الارجاء ويسلمنا للموت، وينتهي دوره عند هذا الحد. ولا تستطيع أن تبني عليه تجارب، ولذا كان المصير هو تكرار المأساة. إلا أنه في الرواية كانت البطلة تتذكر من خلال الغرف من العيون المتفجرة حديثا حكايات المنسيين في الماضي. ولتفادي المصير نفسه تتحول البطلة إلى النخلة حارسة الجزيرة. وهي النهاية التي تثير المزيد من الأسئلة. أعني القبول بحالة خالصة وسكونية من الحياة.
هامش:
كنت أعني أن ملاحظاتي، لا تتناول الجانب الابداعي أو الفني في العمل،وإنما عنيت هنا بما أراه جوهر العمل الثقافي، في قراءة ذوقية، بخلاصة أن الهوية ليست في التماهي مع الطبيعة، كما تقترح الرواية وإنما في تطويعها. لم أكن لأكتب عن كتاب لا أرى فيه شيئا يستحق الوقت والجهد، فحتى بعض الملاحظات الفنية التي لم أوردها، لا تغني عن كونه كتابا مهما، وجزء من أهميته فتح مجال للنقاش والمكاشفة. من ضمنها أن الطبيعة في الأدب الشعبي البحريني هي التي تتعدى على الإنسان، بينما في الرواية الحديثة يصبح الإنسان هو المعتدي والحل الفني مرموزا في تحول البطلة إلى نخلة في ختام الرواية. هو في التماهي من أجل استرداد الهوية، وهو حل منطقي حسب سير العمل. وهنا أؤكد على فكرتي، قتل الذات هو نتيجة للعودة إلى الماضي، ولكن دون أفق مستقبلي. أدرك أن الربط الفني بين حكايات المنسيين وبطلة القصة يبدو مجترا، خاصة بعد منتصف الكتاب، نظرا لأخذه مساحة واسعة، ولكن يغفر له الاسلوب الأدبي، وهو عموما أحد الأساليب " مابعد الحداثية". اذ يمكن أن تبحث عن الترابط في المرموزات وليس في الحكاية.
تعليقات
إرسال تعليق